فصل: كتاب المناسك:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم السنن



.ومن باب الاعتكاف:

قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل أخبرنا حماد بن ثابت، عَن أبي رافع، عَن أبي ابن كعب «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان ولم يعتكف عاما فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين ليلة».
قلت: فيه من الفقه أن النوافل المعتادة تقضى إذا فاتت كما تقضى الفرائض ومن هذا قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العصر الركعتين اللتين فاتتاه لقدوم الوفد عليه واشتغاله بهم.
وفيه مستدل لمن أجاز الاعتكاف بغير صوم ينشئه له وذلك أن صومه في شهر رمضان إنما كان للشهر لأن الوقت مستحق له.
وقد اختلف الناس في هذا فقال الحسن البصري إن اعتكف من غير صيام أجزأه، وإليه ذهب الشافعي وروي عن علي وابن مسعود أنهما قالا إن شاء صام وإن شاء أفطر، وقال الأوزاعي ومالك لا اعتكاف إلاّ بصوم وهو مذهب أصحاب الرأي وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وعائشة وهو قول سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والزهري.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية ويعلى بن عبيد عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه قالت وإنه أراد مرة أن يعتكف في العشر الأواخر من رمضان قالت فأمر ببنائه فضرب فلما رأيت ذلك أمرت ببنائي فضرب، قالت وأمر غيري من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ببنائه فضرب فلما صلى الفجر نظر إلى الأبنية فقال ما هذا آلبرَّ تردن آلبر تردن قالت فأمر ببنائه فقوض وأمر بأبنيتهن فقوضت ثم أخر الاعتكاف إلى العشر الأول منه، يَعني من شوال».
قلت: فيه من الفقه أن المعتكف يبتدئ اعتكافه أول النهار ويدخل في معتكفه بعد أن يصلي الفجر، وإليه ذهب الأوزاعي وبه قال أبو ثور.
وقال مالك والشافعي وأحمد يدخل في الاعتكاف قبل غروب الشمس إذا أراد اعتكاف شهر بعينه وهو مذهب أصحاب الرأي.
وفيه دليل على أن الاعتكاف إذا لم يكن نذرا كان للمعتكف أن يخرج منه أي وقت شاء، وفيه إباحة ترك عمل البر إذا كان نافلة لآفة يخاف معها حبوط الأجر.
قلت: وفي الحديث دليل على جواز اعتكاف النساء وعلى أنه ليس للمرأة أن تعتكف إلاّ بإذن زوجها وعلى أن للزوج أن يمنعها من ذلك بعد الإذن فيه.
وقال مالك ليس له ذلك وقال الشافعي له أن يمنعها من ذلك بعد الإذن، وفيه كالدلالة على أن اعتكاف المرأة في بيتها جائز. وقد حكي جوازه، عَن أبي حنيفة؛ فأما الرجل فلم يختلفوا أن اعتكافه في بيته غير جائز وإنما شرع الاعتكاف في المساجد. وكان حذيفة بن اليمان يقول لا يكون الاعتكاف إلاّ في المساجد الثلاثة مسجد مكة والمدينة وبيت المقدس. وقال عطاء لا يعتكف إلاّ في مسجد مكة والمدينة، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لا يجوز أن يعتكف إلاّ في الجامع، وكذلك قال الزهري والحكم وحماد.
وقال سعيد بن جبير وأبو قلابة والنخعي يعتكف في مساجد القبائل وهو قول أصحاب الرأي وإليه ذهب مالك والشافعي.

.ومن باب المعتكف يدخل البيت للحاجة:

قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله وكان لا يدخل البيت إلاّ لحاجة الإنسان».
قلت: فيه بيان أن المعتكف لا يدخل بيته إلاّ لغائط أو بول فإن دخله لغيرهما من طعام وشراب فسد اعتكافه.
وقد اختلف الناس في ذلك فقال أبو ثور لا يخرج إلاّ لحاجة الوضوء الذي لابد له منه. وقال إسحاق بن راهويه لا يخرج إلاّ لغائط أو بول غير أنه فرق بين الواجب من الاعتكاف والتطوع، وقال في الواجب لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة وفي التطوع يشترط ذلك حين يبتدئ. وقال الأوزاعي لا يكون في الاعتكاف شرط. وقال أصحاب الرأي ليس ينبغي للمعتكف أن يخرج من المسجد لحاجة ما خلا الجمعة والغائط والبول، فأما ما سوى ذلك من عيادة مريض وشهود جنازة فلا يخرج له.
وقال مالك والشافعي لا يخرج المعتكف في عيادة مريض ولا شهود جنازة وهو قول عطاء ومجاهد وقالت طائفة للمعتكف أن يشهد الجمعة ويعود المريض ويشهد الجنازة روي ذلك عن علي رضي الله عنه وهو قول سعيد بن جبير والحسن البصري والنخعي.
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن هشام بن عروه عن أبيه عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون معتكفا في المسجد فيناولني رأسه من خلل الحجرة فأغسل رأسه». قال مسدد: فأرجله وأنا حائض.
قلت: فيه من الفقه أن المعتكف ممنوع من الخروج من المسجد إلاّ لغائط أو بول، وفيه أن ترجيل الشعر يجوز للمعتكف وفي معناه حلق الرأس وتقليم الأظفار وتنظيف البدن من الشعث والدرن.
وفيه أن بدن الحائض طاهر غير نجس، وفيه أن من حلف لا يدخل بيتا فأدخل رأسه فيه وسائر بدنه خارج لم يحنث.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد شبّويه المروزي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن علي بن حسين عن صفية قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره فحدثته ثم قمت فانقلبت فقام معي ليقلبني وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم على رسلكما أنها صفية بنت حُيي قالا سبحان الله يا رسول الله، قال إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا أو شرا».
قلت: حكي لنا عن الشافعي أنه قال كان ذلك منه صلى الله عليه وسلم شفقة عليهما لأنهما لو ظنا به ظن سوء كفرا فبادر إلى إعلامهما ذلك لئلا يهلكا.
قلت: وفيه أنه خرج من المسجد معها ليبلغها منزلها وفي هذا حجة لمن رأى أن الاعتكاف لا يفسد إذا خرج في واجب وأنه لا يمنع المعتكف من إتيان معروف.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا عبد السلام بن حرب أخبرنا الليث بن أبي سليم عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قال النفيلي قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعود المريض وهو معتكف فيمر كما هو فلا يعرج يسأل عنه».
قال: وحدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد عن عبد الرحمن، يَعني ابن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلاّ لما لابد منه ولا اعتكاف إلاّ بصوم ولا اعتكاف إلاّ في مسجد جامع.
قلت: قولها السنة إن كانت أرادت بذلك إضافة هذه الأمور إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولا أو فعلا فهي نصوص لا يجوز خلافها وإن كانت أرادت به الفتيا على معاني ما عقَلت من السنة فقد خالفها بعض الصحابة في بعض هذه الأمور، والصحابة إذا اختلفوا في مسألة كان سبيلها النظر، على أن أبا داود قد ذكر على أثر هذا الحديث أن غير عبد الرحمن بن إسحاق لا يقول فيه إنها قالت السنة فدل ذلك على احتمال أن يكون ما قالته فتوى منها وليس برواية عن النبي صلى الله عليه وسلم ويشبه أن يكون أرادت بقولها لا يعود مريضا أي لا يخرج من معتكفه قاصدا عيادته وأنه لا يضيق عليه أن يمر به فيسأله غير معرج عليه كما ذكرته عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث القاسم بن محمد.
وقولها لا يمس امرأة تريد الجماع وهذا لا خلاف فيه أنه إذا جامع امرأته فقد بطل اعتكافه. وأما المباشرة فقد اختلف الناس فيها فقال عطاء والشافعي إن باشر أو قبل لم يفسد اعتكافه وإن أنزل. وقال مالك يفسده وكذلك قال أصحاب الرأي.
وقولها لا اعتكاف إلاّ بصوم قد ذكرنا الاختلاف في ذلك وقولها لا اعتكاف إلاّ في مسجد جامع فقد يحتمل أن يكون معناه نفي الفضيلة والكمال وإنما يكره الاعتكاف في غير الجامع لمن نذر اعتكافا من جمعة لئلا تفوته صلاة الجمعة فأما من كان اعتكافه دون ذلك فلا بأس به والجامع وغيره سواء في ذلك والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا أبو داود حدثنا عبد الله بن بديل يعنى ابن ورقاء الليثي عن عمرو بن دينار عن ابن عمر «أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يومًا عند الكعبة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال اعتكف وصم».
قلت: فيه من الفقه أن نذر الجاهلية إذا كان على وفاق حكم الإسلام كان معمولا به.
وفيه دليل على أن من حلف في كفره ثم أسلم فحنث أن الكفارة واجبة عليه وهذا على مذهب الشافعي.
وقال أبو حنيفة لا تلزمه الكفارة لأن الإسلام قد جب ما قبله.
قلت: إذا جاز إيلاؤه في حال الكفر وما كان مأخوذا بحكمه في الإسلام فكذلك سائر إيمانه.
وفيه أيضًا دليل على وقوع ظهار الذمي ووجوب الكفارة عليه فيها والله أعلم.

.كتاب المناسك:

قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة المعنى قالا: حَدَّثنا يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين عن الزهري، عَن أبي سنان عن ابن عباس: «أن الأقرع بن حابس سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله الحج في كل سنة أو مرة واحدة قال بل مرة واحدة فمن زاد فتطوع».
قلت: لا خلاف بين العلماء في أن الحج لا يتكرر وجوبه إلاّ أن هذا الإجماع إنما حصل منهم بدليل، فأما نفس اللفظ فقد كان موهما التكرار ومن أجله عرض هذا السؤال وذلك أن الحج في اللغة قصد فيه تكرار ومن ذلك قول الشاعر:
يحجون سب الزِّبرقان المزعفرا يريد أنهم يقصدونه في أمورهم ويختلفون إليه في حاجاتهم مرة بعد أخرى إذ كان سيدًا لهم ورئيسا فيهم وقد استدلوا بهذا المعنى في إيجاب العمرة وقالوا إذا كان الحج قصدا فيه تكرار فإن معناه لا يتحقق إلاّ بوجوب العمرة لأن القصد في الحج إنما هو مرة واحدة لا يتكرر.
وفي الحديث دليل على أن المسلم إذا حج مرة ثم ارتد ثم أسلم أنه لا إعادة عليه للحج.
وقد اختلف العلماء في الأمر الواحد من قبل الشارع هل يوجب التكرار أم لا على وجهين فقال بعضهم نفس الأمر يوجب التكرار وذهبوا إلى معنى اقتضاء العموم منه، وقال الآخرون لا يوجبه ويقع الخلاص منه والخروج من عهدته باستعماله مرة واحدة لأنه إذا قيل له أفعلت ما أمرت به فقال نعم كان صادقًا وإلى هذا ذهب أكثر الناس.

.ومن باب المرأة تحج بغير محرم:

قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلاّ ومعها رجل ذو حرمة منها».
قلت: في هذا بيان أن المرأة لا يلزمها الحج إذا لم تجد رجلا ذا محرم يخرج معها وإلى هذا ذهب النخعي والحسن البصري وهو قول أصحاب الرأي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وقال مالك تخرج مع جماعة من النساء.
وقال الشافعي: تخرج مع امرأة حرة مسلمة ثقة من النساء.
قلت: المرأة الحرة المسلمة الثقة التي وصفها الشافعي لا تكون رجلا ذا حرمة منها وقد حظر النبي صلى الله عليه وسلم عليها أن تسافر إلاّ ومعها رجل ذو محرم منها فإباحة الخروج لها في سفر الحج مع عدم الشريطة التي أثبتها النبي صلى الله عليه وسلم خلاف السنة فإذا كان خروجها مع غير ذي محرم معصية لم يجز إلزامها الحج وهو طاعة بأمر يؤدي إلى معصية.
وعامة أصحاب الشافعي يحتجون في هذا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الاستطاعة فقال: «الزاد والراحلة» قالوا فوجب إذا قدرت المرأة على هذه الاستطاعة أن يلزمها الحج ويتأولون خبر النهي على الأسفار التي هي متطوعة بها دون السفر الواجب.
قلت: وهذا الحديث إنما رواه إبراهيم بن يزيد الخوزي عن محمد بن عباد بن جعفر عن ابن عمر. وإبراهيم الخوزي متروك الحديث، وقد روي ذلك من طريق الحسن مرسلًا والحجة عند الشافعي لا تقوم بالمراسيل. وشبهها أصحابه بالكافرة تسلم في دار الحرب في أنها تهاجر إلى دار الإسلام بلا محرم وكذلك الأسيرة المسلمة إذا تخلصت من أيدي الكفار قالوا والمعنى في ذلك أنه سفر واجب عليها فكذلك الحج.
قلت: ولو كانوا سواء لكان يجوز لها أن تحج وحدها ليس معها أحد من رجل ذي محرم أو امرأة ثقة فلما لم يبح لها في الحج أن تخرج وحدها إلاّ مع امرأة حرة ثقة مسلمة دل على الفرق بين الأمرين.

.ومن باب لا صرورة:

قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة أبو خالد، يَعني سليمان بن حبان الأحمر عن ابن جريج عن عمر عن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا صرورة في الإسلام».
قلت: الصرورة تفسر تفسيرين أحدهما أن الصرورة هو الرجل الذي قد انقطع عن النكاح وتبتل على مذهب رهبانية النصارى ومنه قول النابغة.
لو أنها عرضت لأشمطَ راهبٍ ** عبد الإله صرورةٍ متلبد

والوجه الآخر أن الصرورة هو الرجل الذي لم يحج فمعناه على هذا أن سنة الدين أن لا يبقى أحد من الناس يستطيع الحج فلا يحج حتى لا يكون صرورة في الإسلام وقد يستدل به من يزعم أن الصرورة لا يجوز له أن يحج عن غيره وتقدير الكلام عنده أن الصرورة إذا شرع في الحج عن غيره صار الحج عنه وانقلب عن فرضه ليحصل معنى النفي فلا يكون صرورة، وهذا مذهب الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق.
وقال مالك والثوري حجه على ما نواه وإليه ذهب أصحاب الرأي، وقد روي ذلك عن الحسن البصري وعطاء والنخعي.